الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية المنصف بن مراد يكتب: الاستقلال 1956 والاستقلال 2016

نشر في  23 مارس 2016  (09:56)

 في سنة 1956 نالت تونس استقلالها بفضل مجهودات الشعب التونسي وكفاحه وقياداته السياسية على غرار الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد وصالح بن يوسف والنوري البودالي والباهي لدغم وساسي لسود والمنجي سليم والطاهر بن عمار وبشيرة  بن مراد والشهداء وغيرهم من المناضلين والمناضلات الذين لا يمكن ذكرهم كلهم في هذه المساحة.. نالت استقلالها ونجح الزّعيم بورقيبة في ارساء مجتمع وسطي بعيد كل البعد عن النمودج الشرقي المتّسم بالهيستيريا والخطب الرنّانة الجوفاء.. كان رئيس تونس أول رئيس عربي يرفض الضرب على أوتار العواطف والدمغجة والخطاب الدّيني المتشدّد ويفرض نظاما سياسيا، ـ برغم الكثير من نقائصه ـ جعل من العقل والمصلحة الوطنية ركائز صلبة.. لقد حرر الأراضي والعقول والسلوك وجعل من التعليم وحقوق المرأة والصحّة أسس الدولة التونسيّة.. ثم جاء بن علي وحافظ ـ عموما ـ على  الاتجاهات نفسها لكنه سمح لبعض العائلات المصاهرة بإرساء نظام مافيوزي يبيح للأقارب نهب جزء من خيرات البلاد مع مواصلة  السياسة ذاتها في كل ما يخصّ علاقة الدين بالسياسة.
وبعد خمس سنوات من تغيير النظام فقدت بلادنا اجزاء من استقلالها وأعني حريتها بل سيادتها في اتخاذ القرارات ـ كلّ القرارات ـ دون تدخّل حكومات أجنبيّة أو مؤسّسات اقتصادية أو عقائديّة.

انطلاقا من هذا الواقع لابدّ من الشّروع في معركة الاستقلال الثاني ـ أحبّ من أحبّ وكره من كره ـ لأنّ بلادنا فقدت ـ  على مستويات مختلفة ـ قدرتها على إقرارّ سياسة وطنيّة ترتكز على مصلحة تونس دون غيرها..وهذا بصرف النّظر عن تأثيرات البنك العالمي والمؤسّسات النقدية العالميّة.
وفي هذا المجال يتعيّن الضغط والتحاور مع كل حزب تونسي جعل من غاياته أسلمة الشعب، فلا يمكن تطوير الحريات والتخطيط لأي سياسة مادام للخطاب العقائدي تأثير  على قراراتنا، فطالما أنّ النهضة تردّد أفكارا عقائدية، فهي لا تعتبر حزبا سياسيا، وفضلا عن ذلك فإنّ تونس ليست بحاجة لحزب دعوي وأئمة وشيوخ يضغطون على الحكومة ويساهمون في الاختيارات الكبرى.. وفي هذا السياق يكفي أن نذكّر بأنّ العالم العربي يقاسي الأمرّين من تكبيل الحريات وحقوق الانسان كلما حكم البلاد حزب أو مجموعة دينية علي غرار ما هو الحال في  السعودية والسودان وقطر لنقتنع بأنّ العقيدة ـ كما يمارسها الاسلام السياسي ـ لا علاقة لها بالنمو والحريات وإن ساعدت الثروات النفطية على اخفاء العيوب والنقائص.. ولن نذيع سرّا إذا قلنا إنّ طبيعة المجتمع التونسي عامة (مثقفون ـ نساء ـ طبقة وسطى ـ النقابات ـ المجتمع المدني ـ النخب) ترفض تدخّل الاسلام السياسي حتى وإن كان لهذا التيار انصار تمّ استقطابهم انطلاقا من قناعاتهم أو عن طريق الاغرءات..
وحتى لو قررت النهضة بعث حزب سياسي ومجموعة مختصّة بالدّعوة فانّ ذلك لن يسمح بتغيير فكر «الشقّ السياسي» الذي سيصبح مدنيا بجرة قلم.. فالأمور لا ترتهن بالاختيارات الايديولوجيّة بل بممارسة حزب له قيادات عقائديّة.. انّ من مصلحة النهضة وتونس ان يتخلى هذا الحزب عن مرجعيّته الدّينية التي تتناقض مع 3000 سنة من تاريخ هذه البلاد وان كان موضوع الهوية بالغ الأهمّية.. ان استقلال تونس وكل التونسيين يحتّم التخلي عن الخطاب والممارسات العقائديّة كما يحتّم التخلّي عن الخطاب الشيوعي المتشدّد.. فعلى حزب النّهضة أن يغير أهدافه ويصبح حزبا مدنيا بقدر ما يهتمّ بالهوية، يحترم الحريات والابداع..

ومع ضرورة اقناع النهضة بحتميّة تغيير برنامجيها العلني و السرّي، أصبحت تونس لعبة بين أيادي الغرب وخاصّة الأمريكان الذين ساهموا في الإطاحة بنظام بن علي وبات لهم نفوذ على قراراتنا حتى أنهم فرضوا تحالف حزب الباجي وحزب الغنوشي، وقد  ساندت أغلب البلدان الغربية  هذه القرارات ولو انّ الغرب بدأ يراجع نسبيّا اختياراته الكارثية.. وهنا لابدّ من ان ترفض الحكومة التونسيّة هذه التدخلات وتعلن الاستقلال الثاني للبلاد، ولو أنّ هذه الحكومة باتت مقتصرة على التنفيذ.
أمّا العنصر الثالث الذي يحاول اركاع تونس فيتمثّل في تأثير كبار المهرّبين وأقلية من رجال المال الفاسدين ـ  الذين أثروا في غضون سنوات ـ في قرارات الاحزاب التي تؤثّر بدورها على الحكومة.. ولقد شاهدناهم يستقبلون الارهابيين ويتحكّمون في بعض وسائل الاعلام وينظّمون سفرات جوية للارهابيين المتجهين لسوريا ممّا جعل جمهورية المؤسسات في قبضة المافيا أيضا..

كما نلاحظ أنّ تركيا وقطر لهما نفوذ على قراراتنا وتمركز الاسلام السياسي حتى أصبحت بلادنا «محميّة» يتحكّم فيها كبار العالم وحتى أقزامه بحكم تأثيرهم على الأحزاب والشخصيات السياسية، وقد رأينا حافظ ابن رئيس الجمهورية يستقبله رئيس تركيا وهذا من علامات آخر الدنيا..
لقد آن الأوان لوضع حدّ أيضا لتقزيم بلد عليسة من قبل السعودية التي فرضت انضمامنا لتحالفات أدخلت العرب في حروب دينيّة وسمحت بانتشار الاسلام الوهابي الذي لا علاقة للإسلام الزيتوني به..
فمتى ستعلن بلادنا وبلاد أجدادنا استقلالها الثاني حتى ينتهي الكابوس المهدد لـ 3000 سنة من التاريخ والحضارة؟ ان شباب تونس ونساءها ومبدعيها ومجتمعها المدني ونخبها قادرون على ذلك بالضغط والحوار..
إنّي في انتظار بروز تونس كدولة تنير الطريق لأغلب الشعوب العربيّة سواء على الصعيد الأخلاقي أو المؤسسات أو الثقافة وذلك بمشاركة كل أبنائها ودون اقصاء أيّ كان، شرط أن تكون النّخب في خدمة هذه البلاد التي مرت بصعوبات لكنّها لم تركع أمام الخيانات والاستعمار والطغاة..